بسم الله الرحمن الرحيم
انه العلامة عبد الحميد ابن باديس :
نشأته
نشأ "عبد الحميد" في أحضان أسرة عريقة في العلم والجاه، وفي بيتها الكريم ترعرع معززا مكرما، لا ينقصه شيء من متاع الحياة الدنيا، وكان أبوه حريصا على أن يربيه تربية إسلامية خاصة؛ فلم يُدخله المدارس الفرنسية كبقية أبناء العائلات المشهورة، بل أرسل به للكتاب القرآني ككل الأطفال بالطريقة المألوفة المعروفة وهو في الخامسة من عمره، فحفظ القرآن وتجويده على يد الشيخ المقرئ محمد بن المدَّاسي وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة، ونشأ منذ صباه في رحاب القرآن فشب على حبه والتخلُّق بأخلاقه. ولشدة إعجابه بجودة حفظه، وحسن سلوكه، قدمه ليصلي بالناس التراويح في رمضان بالجامع الكبير وعمره إحدى عشر سنة ليتعود على تحمل المسئولية، وقبله المصلون رغم صغر سنه وبقي يؤمهم ثلاثة أعوام.
تلقى مبادئ العلوم العربية والإسلامية بجامع سيدي محمد النجار على مشائخ من أشهرهم العالم الجليل الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" ابتداء من عام 1903 الذي حبب إليه العلم، ووجهه الوجهة المثلى فيه، وهو من أوائل الشيوخ الذين لهم أثر طيب في اتجاهه الديني.
و في سنة 1908 عزم أستاذه الشيخ "الونيسي" على الهجرة إلى المشرق العربي حين ذاق ذرعا بالحياة تحت وطأة الحكم الفرنسي الطاغي، و لشدة تعلق عبد الحميد بأستاذه قرر السفر معه أو اللحاق به مهاجرا في طلب العلم، غير أن آباه لم يوافقه على ذلك ووجهه إلى طلب العلم في تونس.
حياته الزوجية
تزوج الشيخ عبد الحميد بن باديس في سن مبكرة وهو لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره حين تم عقد زواجه في 08 مارس 1901م بإحدى قريباته ابنة عمه "اليامنة بنت ابن باديس"، ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره دخل بيت الزوجية في حدود 1904 م. أنجب عبد الحميد بن باديس من هذا الزواج المبكر ولدا سماه "إسماعيل"، ظل الابن يدرس عند أبيه "عبد الحميد" حتى حفظ القرآن وقبل أن يوجهه أبوه لطلب العلم، توفي في حادث مفاجئ ببندقية صيد في ضيعة جده إذ يقال إنه كان يتجوّل بالمزرعة شاهد أحد حراس المزرعة يعلق بندقيته المعبأة بالرصاص في جذع شجرة. فحملها إسماعيل بكل براءة وراح يلهو بها فخرجت رصاصة قاتلة استقرت بصدر الصغير، وذلك في 19 من رمضان عام 1337هـ الموافق لـ17 جوان 1919م .
وهناك بالمدينة الكبيرة كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يقدم دروسه لتلامذته داخل المسجد عندما تقدم منه أحد أصدقائه وأسرّ له الخبر المحزن، فأكمل الدرس حتى نهايته ثم انفرد في زاوية خاصة وراح يُذرف الدموع، وتكرر نفس المشهد عندما توفي شقيقه سليم، وكان حينها أيضا في حلقة تدريس.
أما زوجته لم تستمر معه طيلة حياته حيث طلقها عندما طلبت أن تقيم وحدها بعيدا عن أسرة والده وكان هو يريد أن يبقيها ضمن أفراد عائلة أبيه حتى تتوفر لديه الحرية أكثر في الحركة والنشاط لأنه كان يقضي جل وقته في الدرس والخطابة والكتابة خارج البيت وبدخوله عالم الدعوة لم يعد يزور البيت إلا نادرا، مما أثار حفيظة الزوجة التي غادرت بيت أهل بن باديس، وعندما رجع ولم يجدها رفض رغم إلحاح والده الذهاب لإحضارها. وانتظر عدة أيام وعندما تأكد من عدم رجوعها للبيت لفظ كلمة الطلاق ورفض العودة عن قراره رغم محاولات أهل الزوجين وأكثر من ذلك رفض الزواج ثانية.
تعليمه بجامع الزيتونة
نظرا لما كان يبدو على "عبد الحميد" من فطنة و نباهة وميل إلى الجد في فترة التعلم التي سبقت ذهابه إلى تونس حرس أبوه على إرساله إلى جامع الزيتونة ليكمل تعليمه ويوسع معارفه، فسافر إلى تونس في نفس العام الذي هاجر فيه أستاذه "الونيسي" (1908 م) إلى المشرق تاركا الزوجة والولد في كفالة والديه، وسنه إذ ذاك تسعة عشرة عاما. وبعد ثلاث سنوات من الجد والاجتهاد تحصل على شهادة التطويع (كما كانت تدعى حين ذاك) عام 1911 م وقد نجح في امتحان التخرج نجاحا باهرا، إذ حصل على الرتبة الأولى ضمن قائمة جميع الناجحين في تلك الدورة، و كان الطالب الجزائري الوحيد الذي تخرج في دفعة تلك السنة من الجامع المعمور وذلك بناء على وجوده في رأس قائمة الناجحين التي نشرتها جريدة "المشير" التونسية، وأقام أثناء دراسته بمدرسة "النخلة" الكائنة بنهج الكتيبة رقم 11 قرب جامع الزيتونة، وكان يسكن بها أحد شيوخه وهو المرحوم "سعد السطيفي" وبقي بعد التخرج سنة أخرى يُدرس ويَدرس على عادة المتخرجين في ذلك العهد.
والملفت للانتباه أن نظام الدراسة في الزيتونة قبل السنة التي التحق فيها "عبد الحميد" (1908 م) أن المّدة التي يقضيها الطالب لنيل أعلى شهادة هي سبع سنوات، ولكن يسمح للطالب المتمكن – بعد إجراء امتحان له – أن يتجاوز سنوات ويوضع في الصف الذي يؤهله له هذا الامتحان، غير أنه في السنة التي سافر فيها "عبد الحميد" ألغي هذا النظام، فأدى ذلك إلى إثارة طلاب الزيتونة، فتراجعت إدارة الجامع عن المرسوم، وأجّلت تطبيقه إلى السنة الموالية مما أتاح لعبد الحميد فرصة الالتحاق بالسنة الخامسة – بعد أن أجري له امتحان – فلم يدرس في جامع الزيتونة إلا ثلاث سنوات نال بمقتضاها الشهادة والسنة الرابعة قضاها مدرسا.
وهناك في تونس خلال المدة التي قضاها في التعلم تعرف على كبار العلماء، وأخذ عنهم الثقافة العربية الإسلامية وأساليب البحث في التاريخ والحياة الاجتماعية، من أمثال الشيوخ : محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام الذي درس عليه ديوان الحماسة للبحتري، والعلامة الصدر محمد النخلي القيرواني الذي درس عليه التفسير، والعلامة الخضر بن الحسين الطولقي الجزائري التونسي الذي تلقى عليه المنطق وقرأ عليه كتاب التهذيب فيه، ومحمد بلحسين النجار بن الشيخ المفتي محمد النجار والشيخ محمد الصادق النيفر قاضي الجماعة الذي أخذ على يده الفقه، والبشير صفر ألمع المؤرخين والمصلحين التونسيين في القرن العشرين، وكان لكل واحد من هؤلاء تأثير خاص في جانب من جوانب شخصية ابن باديس، وقد عرف ابن باديس أثناء دراسته في الزيتونة بالنشاط، وكان يتميز بحب الاطلاع الواسع، كما يبدو من خلال اتصالاته ببعض العلماء خارج الزيتونة حيث كان يحضر بعض الدروس غير المقررة في برنامج الزيتونة فهو يخبرنا إنه حضر على الشيخ "خضر بن الحسين" دروسه في تفسير البيضاوي في داره بباب منارة في تونس.
فقد تأثر كثيرا ببعض المشايخ الذين وجد في آرائهم وأفكارهم وأساليب تعليمهم ما يلائم طبعه وتطلعه، و ميله إلى الاجتهاد واستعمال العقل، مثل الشيخ محمد النخلي القيرواني الذي كان دائما يذكره ويثني على منهجه في التدريس، كما تأثر ببعض الأفكار الإصلاحية التي بدأت تروج في تونس بعد زيارة محمد عبده لها