يقول الشاعر محمود درويش : "إن الشعر هو الذي يعيد الحياة إلى اللغة، عندما تستهلك وتصبح مجرد لغة يومية، مبتذلة ودارجة". و في عصر لم تعد فيه الآذان تسمع لغة فصحى إلا في نشرات الأخبار , ما أحوجنا إلى الإصغاء إلى نفائس شعرنا العربي و تأمل صوره الرائعة لعل عقولنا و آذاننا تستريحان من صخب حياتنا اليومية .
و مع الشاعر محمد السويدي سنقلب صفحات رائعة من الشعر العربي نمر فيها على حكمة زهير و فروسية عنترة و عشق امرؤ القيس .
ديوان العربأشعار بصوت الشاعر محمد السويدي
قصيدة عزة
كثير عزة
هذه القصيدة التي اختارها أستاذنا محمد السويدي هي أشهر شعر كثير عزة، وأشهر ما فيها البيتان:
رُهـبانُ مَديَنَ وَالَّذينَ عَهِدتُهُم **يَبكونَ مِن حَذَرِ العَذابِ قُعودا
لو يَسمَعونَ كَما سَمِعتُ كَلامَها **خَـرُّوا لِـعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجودا
وبسبب هذين البيتين امتنع عمر بن عبد العزيز عن الإذن لكثيّر بالدخول عليه لما ولي الخلافة، في خبر طريف، ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد ، وهو من الأخبار الطوال، اشتمل على ذكر أخطر ما قاله الشعراء الوافدون في الغزل، وهم عمر بن أبي ربيعة، وجميل بن معمر العذري. وكثير عزة، والأحوص الأنصاري، والفرزدق والأخطل وجرير. ويمكن لمن يرغب بمعرفة أخبار كثير مع عزة أن يراجع في ذلك كتاب (تزيين الأسواق) في الوراق، فقد أتى الأنطاكي فيه على ذكر كل أخبار كثير مع عزة. وعزة هذه كنانية، من (ضمرة بن بكر) رهط البرّاض. وهي عزة بنت جميل بن حفص. وكان سبب عشقه لها أنه مر بغنم له ترد الماء على نسوة من ضمرة بوادي الخبت فأرسلن له عزة بدريهمات تشتري بها كبشاً لهن منه فنظرها نظرة متأمل فداخله
منها ما كان. ومعظم شعره في عزة يجري في ذكر مطالها في الوعد، لأنه لم ينل منها ما نال العشاق من معشوقاتهم، وكل ما ظفر به منها أنها وعدته مرة بقبلة. ثم زاد الطين بلة أن اخترمت المنية عزة من يد كثير فقال فيها أوجع الشعر وأشجاه، وأعذبه وأحلاه. وهذا الجانب من شعر كثير هو الذي سارت به الركبان، وتمثلت به الوعاظ في مجالسها. وكانت وفاتها في مصر، ولوقوف الخلفاء والملوك على قبرها قصص مذكورة.
وأما كثير فتوفي سنة (105هـ) في المدينة المنورة، في اليوم الذي توفي فيه عكرمة مولى ابن عباس. وكان قصيرا جدا، وبسبب قصره المفرط صُغّر اسمه، فصار (كُثَيّرا) وكان (كثيرا).
وهو صاحب الكلمة السائرة: (ضحى بنو حرب بالدين يوم الطف وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر).
وأعود إلى ذكر البيتين، ملمحا إلى أثرهما في شعر معاصري كثير، فمن ذلك قصيدة ساقها المرزوقي في (الأزمنة والأمكنة) منسوبة إلى الأصمعي، وفيها:
لـو رآه رهبان مَدْين طاروا **واستخف المطران والجاثليق
ومن ذلك ورودها في شعر جرير:
رهـبانُ مدينَ لو رأوْكِ تنازلوا **والعصمِ من شغفِ العقول الفادرِ
ويبدو أن هذا المقطع الذي ورد فيه هذا البيت من قصيدة جرير صار أغنية، لذلك نرى محمد بن يزيد بن مسلمة، يقتبسه منوها إليها في رائية مطولة كتبها في وصف قصر عبد القادر (ابن عمه) وانفرد بذكرها المرزوقي في أماليه، وأعقبها بقصيدة في نقضها لعبد القادر.
قصيدة ضمرة
ضمرة النهشلي
قصيدة ضمرة هذه والتي أسماها أستاذنا السويدي (لؤلؤة الغواص) من أشهر شعر العرب قبل الإسلام، وقد كتبها ضمرة النهشلي بسؤال من النعمان بن المنذر، قال أبو الحسن الأخفش: وهي من أحسن ما قيل في ترتيب أسنان النساء وإن كان شعراً ضعيفاً.
وضمرة النهشلي هذا هو ضَمرَةُ بن ضَمرَة بن جابر النَهشَلي الدارمي. من بني دارم، من وجوه شعراء تميم قبل الإسلام، وأمه (هند بنت كرب بن صفوان) كان من ندماء النعمان بن المنذر، وكان اسمه شقة، فسماه النعمان باسم أبيه في قصة مشهورة ، ويعرف هو وأبوه بالضمرين، وبهذا اللقب ذكرهما الفرزدق في شعره فقال:
وبالعمرين والضمرين نبني **دعـائـم عزهن مشيدات
وهو صاحب يوم ذات الشقوق، من أيام العرب في الجاهلية، أغار على بني أسد، وظفر بهم، في مكان من ديارهم يسمى ذات الشقوق. وهو المراد بالمثل السائر تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. انظر قصته في (مجمع الأمثال) على الوراق. وترجم له الجاحظ في كتابه (البرصان والعرجان) ترجمة مطولة، افتتحها بقوله:
ومن البرصاء الرؤساء والأشراف الشعراء، ومن الرحالين إلى الملوك والحكام من العرب. وكان أبوه (ضمرة بن جابر) شاعرا أيضا، وكذا ابنه حري بن ضمرة، وحفيده نهشل بن حري بن ضمرة. قال ابن سلام في الطبقات:
فنهشل بن حري: شاعر شريف مشهور. وأبوه حري: شاعر مذكور. وجده ضمرة بن
ضمرة: شريف فارس شاعر بعيد الذكر كبير الأمر. وأبوه: ضمرة بن جابر: سيد ضخم
الشرف بعيد الذكر. وأبوه جابر: له ذكر وشهرة وشرف. وأبو قطن: له شرف وفعال وذكر في العرب. فهم ستة كما ذكرنا، لا أعلم في تميم رهطا يتوالون توالي هؤلاء.
قصيدةجمانة البحري
المسيب بن عَلَس الضبعي
المسيب بن مالك بن عمرو بن قمامة، من ربيعة بن نزار. أبو فضة.
من شعراء بكر بن وائل المعدودين قبل الإسلام. واسمه زهير، والمسيب لقبه كما حكى ابن دريد في (الاشتقاق) وهو خال الأعشى ميمون وكان الأعشى راويته.. وكان من ندماء القعقاع بن معبد التميمي الذي وفد على النبي (ص) كما في السيرة. وهو من الشعراء المقلين، قال أبو عبيدة في (الديباج):
واتفقوا على أن المقلين ثلاثة: المسيب بن علس، وهو خال أعشى بني قيس بن ثعلبة، والمتلمس، وحصين بن الحمام المري. وهو من شعراء المفضليات، وله فيها قصيدة جميلة، أولها: (أرحلت من سلمى بغير وداع)
والمنشور من شعره في الموسوعة الشعرية (226) بيتا، في (33) قطعة.
قال ابن دريد: واسمُه زهير. وإنَّما سمِّي المسَّيبَ ببيتٍ قاله:
فإِنْ سرَّكمْ أن لا تؤوبَ لقاحُكم **غِـزاراً فقولوا للمسَّيب يَلْحقِ
وقصيدته (جمانة البحري) التي نسمعها اليوم بإنشاد الأستاذ محمد السويدي من مشهور الشعر، وهي القصيدة التي سطا عليها النابغة الجعدي (ت 670هـ) كما أوضح ذلك ابن قتيبة في ترجمة المسيب في كتابه (الشعر والشعراء) وذكر مثل ذلك في كتابه (المعاني الكبير). واختار الجاحظ ستة أبيات من خاتمتها في (البيان والتبيين) وتجد أبياتها منثورة في معظم كتب الأدب.
قصيدةأمواه الشبيبة
أبو العلاء المعري
هذه القصيدة من بديع شعر أبي العلاء، وأبدع ما فيها خاتمتها، وهي إحدى القصائد التي شرحها ابن السيد البطليوسي في (المختار) وتجدها فيه (ص400) من طبعة دار الكتب (1970م) وأنا هنا أختار من شرح البطليوسي ما أجد ضرورة في نقله:
البيت الأول:
لأمـواهِ الـشبيبة كيف غضنه **وروضات الصبا كاليبس إضنه
غضنَ: ذهبن ونقصن، يقال: غاض الماء يغيض، وغضته أنا. واللام في قوله: (لأمواه الشبيبة) لام التعجب. ويقدر لها فعل (أعجب) لكذا
إضْن: رجعن، ويقال: آض يأيض أيضا، إذا رجع، ولذلك يقال: (قال أيضا) و(فعل أيضا) ومعناه: عاد إلى مثل ما كان منه أولا.
اليبس جمع يابس، على وزن ركب: جمع راكب. وتروى أيضا بضم الياء (يُبس) والمعنى العام للبيت: اعجبوا لأمواه الشبيبة كيف غاضت ولروضات الصبا كيف يبست.
البيت الثاني والثالث:
وآمــال الـنـفوس معللات **ولـكــن الحوادث يعترضنه
فـلا الأيــام تَغرض من أذاة**ولا المهجات من عيش غرضنه
يقول: للنفوس آمال يتعلل بها الإنسان، لو سالمته نوب الزمان، ولكن الحوادث تعترض بينه وبين أمله، بما يوافيه من حَينه وأجله. ومعنى تَغرض: تمل، يقال: غَرِضت من الشيء: إذا مللته، وغرضتُ إليه: إذا اشتقت إليه وأحببته. يقول: (الأيام لا تمل من الضرر لنا والأذاة، ومهجاتنا مع ذلك لا تمل العيش والحياة، وقد قنعت بحالها على ما فيها من الكدر، وسكنت للأيام مع ما ينالها فيها من الضرر).
البيت الرابع:
وأسباب المنى أسباب شعر **كُففن بعلم ربك أو قبضنه
ويروى (وأسباب الفتى...)
يقول: (الأيام تمنع الإنسان أن ينال آماله على ما يرغب، كما يعرض القبض والكف =من زحافات العروض= لأسباب الشعر فيجيء الجزء على غير ما يجب. ومعنى القبض: أن يحذف الحرف الخامس من (فعولن) و(مفاعيلن) فيصيران (فعول) و(مفاعلن). ومعنى الكف: أن يحف الحرف السابع من مفاعيلن، فتصير (مفاعيل)
البيت العاشر:
نجائب لامرئ القيس بن حجر **يقصن أخا البطالة إذ يرضنه
النجائب: الإبل. ويريد أن الغواني كن مطايا امرئ القيس لأنه كان مستهترا بالنساء. وقوله (وقصن) يقال: وقصت الدابة راكبها إذا ألقته من على ظهرها فاندقت عنقه.
البيت (17 و18و19):
وَقَـد سَـرَّ الـمَعاشِرَ باقِياتٌ **مِـنَ الأَنباءِ سِرنَ لِيَستَفِضنَه
أَرى الأَزمــانَ أَوعِيَةً لِذِكرٍ**اِذا بُـسـطُ الأَوانِ لَهُ نُفِضنَه
قَدِ اِنقَرَضَت مَمالِكُ آلِ كِسرى **سِـوى سِيَرٍ لَهُنَّ سَيَنقَرِضنَه
يقول: الأزمنة أوعية لما يخلده الإنسان من الذكر، فإذا طال الزمان ذهب الذكر) قلت أنا زهير: (وربما أراد أن يقول: إن ما يسر الناس من أنباء تواريخهم المستفيضة سيأتي عليها يوم فتصير مثل الغبار على البسط، لا تظهر إلا بنفضها، فما الذي بقي من ممالك آل كسرى غير هذه السير التي هي أيضا في طريق الانقراض)
البيت (23):
وَقَـد كَذَبَ الَّذي يَغدو بِعَقلٍ **لِتَصحيحِ الشُروعِ إِذا مَرِضنَه
يقول: (من ادعى معرفة علم الشرائع بالمقاييس العقلية فقد كذب، وليس فيها أكثر من التسليم، ولذلك كان أرسطاطاليس يأمر بتأديب من تعرض للبحث عنها ولم يقنعه الظاهر منها، وكان يقول: (اقتلوا من لا دين له) وكان أفلاطون يقول: (نحن عاجزون عن فهم ما جاءت به الشرائع، وإنما نعلم من ذلك يسيرا، ونعلم أنا قد جهلنا أكثر مما علمنا، وغاب عنا من أسرار الخليقة أكثر مما أدركنا) وهذا قول حذاق المتفلسفين ورأي اللقنة الموقعين، وإن رجلا لا يعرف حقيقة نفسه لجدير ألا يعرف حقيقة غيره)
البيت (24):
هِيَ الأَشباحُ كَالأَسماءِ يَجري ال** قَـضـاءُ فَـيَرتَفِعنَ وَيَنخَفِضنَه
يقول: (القضاء يرفع قوما ويخفض آخرين، فمنزلتهم منزلة الأسماء التي ترفع بالإعراب تارة وتخفض تارة).
البيت (26):
غَدَت حُجَجُ الكَلامِ حَجا غَديرٍ **وَشـيـكاً يَنعَقِدنَ وَيَنتَقضنَه
الحَجى بفتح الحاء جمع حجاة، وهي نفاخات تعوم على الماء إذا سقط فيه ماء آخر... يقول: (حجج المتكلمين من أهل الجدل إنما هي مقاييس فاسدة يزخرفونها، فإذا بُحث عن حقائقها اضمحلت، فهي كنفاخات الماء التي تنعقد تارة ثم تنتقض تارة).