بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أيها الأفاضل : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
يشعر الإنسان بسعادة تغمره و بأسى يمزق أحشاءه حين يبحث في سيرة عظماء المسلمين ، يشعر بالسعادة لكونه ينتمي لهذه الأمة " أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ " التي خرجت جيلا هو خير الأجيال ، و رجالا هم خيرة الرجال ، صنعوا حضارة شرقت و غرّبت ، قادت العالم الأول نحو 1000 سنة لما تمسكوا بكتاب ربهم و سنة نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
و يشعر بالأسى و الحزن للفرقة التي دبت في صفوف المسلمين و حولتهم من السيادة و القيادة و الريادة إلى التبعية و الذل و الهوان و الاستكانة و الضعف ، بسبب الإعراض عن الشرع و التشبث و التنازع على الحياة الدنيا الفانية و ما فيها من شهوات و ملذات و مؤامرات لا من أجل الصالح العام للأمة و إنما للمصلحة الشخصية الضيقة .
و الله أسأل أن يثيبنا لرشدنا و يجمع شملنا و يوحد صفنا و يلم شعثنا و يؤلف بين قلوبنا و يحقن دماءنا و يردنا إلى دينه ردا جميلا ، و أترككم مع نبذة مختصرة من السيرة العطرة الندية لثاني الخلفاء الراشدين عمر ـ رضي الله عنه ـ
اســـمـــه و لـــقـــبــــه :
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ، يجتمع نسبه مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كعب بن لؤي ، فهو قرشي من بني عدي ، وكنيته أبو حفص ، و الحفص هو شبل الأسد ، كنّاه به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر ، ولقبه الفاروق ، لقبه بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم إسلامه ، فاعز الله به الإسلام ، وفرق بين الحق والباطل .
صــفــاتــه الــخــلــقــيــة :
كان طويلا بائن الطول ، إذا مشى بين الناس أشرف عليهم كأنه راكب ، أسمر، مشربا بحمرة ، حسن الوجه ، غليظ القدمين والكفين ، أصلع خفيف العارضين ، جلدا شديد الخلق ، ضخم الجثة ، قوي البنية ، جهوري الصوت .
قالت فيه الشفاء بنت عبد الله : " كان عمر إذا تكلم أسمع ، وإذا مشى أسرع ، وإذا ضرب أوجع ، وهو الناسك حقا ".
جـــاهــلــيـــتـــه :
نشأ في مكة عاصمة العرب الدينية ، كان من أنبه فتيان قريش وأشدهم شكيمة ، شارك فيما كانوا يتصفون به من لهو وعبادة ، فشرب الخمر ، وعبد الأوثان واشتد بالأذى على المسلمين في سنوات الدعوة الأولى ، وكان يعرف القراءة والكتابة و أصبح واحدا من سبعة عشر يتقنون ذلك ، فحفظ الشعر وأيام العرب وأنسابهم ، غير أن أباه لم يتركه ليستمتع بالقراءة بعد أن تعلمها ، بل حمله على أن يرعى له الإبل في الوديان المعشبة المحيطة بمكة ، وأقبل على تعلم الفروسية والمصارعة حتى أتقنهما ، اشتغل عمر ـ رضي الله عنه ـ بالتجارة وربح منها ما جعله في وضع مادي لا بأس به ، وكسب معارف متعددة في البلاد التي زارها للتجارة ، فرحل إلى الشام صيفا والى اليمن شتاء ، واحتل مكانة بارزة في المجتمع المكي الجاهلي ، وأسهم بشكل فاعل في بناء تاريخ أسرته ، حيث كان جده نفيل بن عبد العزّى تحتكم إليه قريش في منازعاتها ، فضلاْ على أن جده الأعلى كعب بن لؤي كان عظيم القدر والشأن عند العرب ، فقد أرّخوا بسنة وفاته إلى عام الفيل ، وتوارث عمر عن أجداده هذه المنزلة الكبيرة ، قال عنه ابن سعد : " إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام ".
ولا ضير في ذلك فهو من أشراف قريش وإليه كانت السفارة ، وقال عنه ابن الجوزي : " كانت السفارة إلى عمر بن الخطاب ، إن وقع حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيرا ، أو نافرهم منافر ، أو فاخرهم مفاخر ، بعثوه منافرا ومفاخرا, ورضوا به ـ رضي الله عنه ـ " .
ذلكم هو عمر بن الخطاب في الجاهلية : رجل قوي البنيان ، رابط الجأش ، ثابت الجنان ، صارم حازم ، لا يعرف التردد والأرجحة ، احتشدت في شخصيته الرجولة الحقة التي أكسبته مكانة بين قومه في الجاهلية و الإسلام .
إســـلامـــه :
كان عمره يوم بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثين سنة ، أو بضعا وعشرين سنة ، على اختلاف الروايات ، وقد أسلم في السنة السادسة من البعثة ، في قصة مشهورة في السيرة النبوية ، و سنذكرها هنا مفصّلة تعميما للفائدة :
بينما كانت قريش قد اجتمعت فتشاورت في أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : أي رجل يقتل محمداْ ؟ فقال عمر بن الخطاب : أنا لها ، فقالوا : أنت لها ياعمر ، فخرج في الهاجرة ، في يوم شديد الحر ، موشحا سيفه يريد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعضا من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعلي و حمزة ـ رضي الله عنهم ـ في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ، وقد ذكروا له أنهم اجتمعوا في دار الأرقم في أسفل الصفا ... فلقيه نعيم بن عبد الله النحام ، فقال : أين تريد يا عمر ؟ قال :أريد هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسب آلهتها فأقتله ، قال له نعيم : لبئس الممشى مشيت يا عمر ، ولقد والله غرتك نفسك من نفسك ، ففرطت وأردت هلكة بني عدي ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداْ ؟ فتحاورا حتى علت أصواتهما ، فقال عمر : إني لأظنك قد صبأت ولو أعلم ذلك لبدأت بك ، فلما رأى النحام أنه غير منته قال : فإني أخبرك أن أهلك و أهل خنتك قد أسلموا وتركوك وما أنت عليه من ضلالتك .
فلما سمع مقالته قال : وأيهم ؟ قال : خنتك وابن عمك و أختك .
فلما سمع عمر أن أخته وزوجها قد أسلما احتمله الغضب فذهب إليهم فلما قرع الباب قالوا : من هذا ؟ قال : ابن الخطاب . وكانوا يقرؤون كتابا في أيديهم ، فلما سمعوا حس عمر قاموا مبادرين فاختبؤوا ونسوا الصحيفة على حالها ، فلما دخل ورأته أخته عرفت الشر في وجهه ، فخبأت الصحيفة تحت فخذها قال : ما هذه الهيمنة ( الصوت الخفي ) التي سمعتها عندكم ؟ ( وكانوا يقرؤون طه ) فقالا : ما عدا حديث تحدثناه بيننا ، قال : فلعلكما قد صبأتما ، فقالت أخته : أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك ؟.. فوثب عمر على خنته ( أي زوج أخته ) سعيد وبطش بلحيته فتواثبا ، وكان عمر قويا شديدا فضرب بسعيد الأرض ووطئه وطأ ثم جلس على صدره ، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحه بيده ، فدمى وجهها ، فقالت وهي غضبى : يا عدو الله ، أتضربني على أن أوحد الله ؟ قال نعم ، قالت : ما كنت فاعلا ففعل ، أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ، لقد أسلمنا على رغم أنفك ، فلما سمعها عمر ندم وقام عن صدر زوجها فقعد ، ثم قال : أعطوني هذه الصحيفة التي عندكم فأقرأها ، فقالت أخته لا أفعل ، قال : ويحك ، قد وقع في قلبي ما قلت ، فأعطنيها أنظر إليها ، وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحرزيها حيث شئت ، قالت : أنت رجس ؟ (( ولا يمسه إلا المطهرون )) فقم فاغتسل أو توضأ ، فخرج عمر ليغتسل ورجع إلى أخته فدفعت إليه الصحيفة ، وكان فيها طه وسور أخر فرأى فيها : (( بسم الله الرحمن الرحيم )) ، فلما مر بالرحمن الرحيم ذعر ، فألقى الصحيفة من يده ، ثم رجع إلى نفسه فأخذها فإذا فيها : ( الآيات من 1 - 8 من سورة طه ) فعظمت في صدره ، فقال : من هذا فرت قريش ! ثم قرأ فلما بلغ إلى قوله تعالى : (( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى )) طه 14 - 16 . قال : ينبغي لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره ، دلوني على محمد ، فلما سمع خباب ذلك خرج من البيت فقال : أبشر يا عمر ، فإني أرجوا أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الاثنين : (( اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك : بأبي جهل بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب )) قال : دلوني على مكان رسول الله ، فلما عرفوا منه الصدق قالوا : هو أسفل الصفا ، فاخذ عمر سيفه فوشحه ثم عمد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وضرب عليه الباب ، فلما سمعوا صوته وجلوا - وكان حمزة وطلحة على الباب والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ داخل يوحى إليه - ولم يجترئ أحد منهم أن يفتح له ، لما قد علموا من شدته على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رأى حمزة وجل القوم ، قال : مالكم ؟ قالوا عمر بن الخطاب ؟ قال : عمر بن الخطاب ؟ افتحوا له ؛ فإن يرد الله به خيرا يسلم ، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا ، ففتحوا له ، و أخذ بحجزه وبجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة ، وقال : (( ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟ والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعه )) فقال له عمر : يا رسول الله ، جئتك أومن بالله وبرسوله وبما جئت به من عند الله ، قال : فكبّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم ، فتفرق أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، و ينتصفون بهما من عدوهم .
ومنذ أسلم انقلبت شدته على المسلمين إلى شدة على الكافرين ، ومناوأة لهم ، فأوذي وضرب ، وقد سبقه إلى الإسلام تسعة وثلاثون صحابيا فكان هو متمما للأربعين ، وقد استجاب الله به دعوة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ قال : (( اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك : أبي جهل بن هشام أو عمر بن الخطاب )) رواه الترمذي.
فكان إسلامه دون أبي جهل ، دليلا على محبة الله له ، وكرامته عنده .
صــحــبــتــه للــرســـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
كان في صحبته للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثال المؤمن الواثق بربه ، المطيع لنبيه ، الشديد على أعداء الإسلام ، القوي في الحق ، المتمسك بما أنزل الله من أحكام ، شهد المعارك كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأثنى عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يدل على عظيم منزلته عنده ، وبلائه في الإسلام . ومما ورد فيه قوله : (( إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ، وفرق الله به بين الحق والباطل )) رواه الترمذي .
وكان ذا رأي سديد ، وعقل كبير ، وافق القران في ثلاث مسائل قبل أن ينزل فيها الوحي :
1) كان من رأيه تحريم الخمر فنزل تحريمها بقوله تعالى : ((: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) .
2) كان من رأيه عدم قبول الفداء من أسرى بدر، فنزل القرآن مؤيدا رأيه .
3) كما أشار على النبي باتخاذ الحجاب على زوجاته أمهات المؤمنين فنزل القرآن بذلك .
ولما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزع لذلك جزعا شديدا ، حتى زعم أن رسول الله لم يمت ، وأنه ذهب يناجي ربه ، وسيعود إلى الناس مرة أخرى ، وأعلن أنه سيضرب كل من زعم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مات.
وهكذا توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يمثل الشدة على أعداء الله من مشركين ومنافقين ، وكان إذا رأى أحدا أساء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول أو فعل ، قال لرسول الله : " دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق " . . وقد شهد له رسول الله بالجنة ، وهو أحد العشرة المبشرين بها ، وحسبه شرفا ومكانة عند الله أن رسول الله توفي وهو عنه راض .
فــي خــلافــة أبــي بـــكـــر :
وكان عمر في خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وزير صدق ، ومساعد خير، به جمع الله القلوب على مبايعة أبي بكر يوم اختلف الصحابة في سقيفة بني ساعدة ، وكان إلهاما موفقا من الله أن بادر عمر إلى مبايعة أبي بكر، فبادر الأنصار والمهاجرون بعد ذلك إلى البيعة .
ولقد كان أبو بكر أجدر الصحابة بملء هذا المكان الخطير ، بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل لقد علم الصحابة جميعا ، أن الرسول حين استخلف أبا بكر على الصلاة إنما أشار بذلك إلى أهليته للخلافة العامة ، ولكن فضل عمر في مبايعة أبي بكر ، إنما كان في حسم مادة الخلاف الذي كاد يودي بوحدة المسلمين ، ويقضي على دولة الإسلام الناشئة .
وكانت شدة عمر في حياة النبي ـ عليه السلام ـ هي في حياة أبي بكر ... فأبو بكر كان رجلا حليما تملأ الرحمة برديه ، ويغلب الوقار والعفو على صفاته كلها ، فكان لا بد من رجل قوي الشكيمة كعمر ، يمزج حلم أبي بكر بقوة الدولة ، وهيبة السلطان ... فكان عمر هو الذي قام هذا المقام ، واحتل تلك المنزلة ، ولذلك كان أبو بكر يأخذ برأيه ، ويعمل بقوله .
أمر أبو بكر يوما بأمر فلم ينفذه عمر، فجاءوا يقولون لأبي بكر : " والله ما ندري : الخليفة أنت أم عمر ؟ فقال أبو بكر : هو إن شاء ! "…
وتلك لعمري نفحة من نفحات العظمة الإسلامية التي أرادها الله بشير خير للمسلمين وللعالم بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ … عمر يقول لأبي بكر يوم السقيفة : " أنت أفضل مني " ، وأبو بكر يجيبه بقوله : " ولكنك أقوى مني ". . فيقول عمر لأبي بكر : " إن قوتي مع فضلك " .. وبذلك تعاونت العظمتان في بناء صرح الدولة الإسلامية الخالد ... فضل أبي بكر وحلمه وعقله وحزمه ، مع قوة عمر وبأسه وشدته وهيبته .
ــــــــــــــــــــ يتبع ــــــــــــــــــــــــــ
أخوكم : عبد الحميد